فى السادس والعشرين من يولية 1945، وبعد أربع سنوات من دخول الولايات المتحدة الحرب ضد اليابان، أعلن الرئيس الأمريكى هارى ترومان إنذاراً نهائياً للامبراطورية اليابانية بالاستسلام التام غير المشروط، وإلا ستواجه "تدميراً سريعاً وشاملاً". كان ترومان يرغب فى إنهاء الحرب بسرعة لتقليل خسائر الجنود الأمريكيين وتدمير مقاومة اليابانيين الشرسة، وكان فى جعبته سلاحٌ جديدٌ فتاكٌ فى جعبته، وهو القنبلة الذرية. ولكن اليابان ردت فى اليوم التالى أنها لا تقبل الاستسلام غير المشروط. سنتعرف هنا على قصة إسقاط القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية في السادس من أغسطس 1945 قبل سبعين عاماً.
 |
| الطائرة بي 29 سوبر فورتريس B29 Superfortress التى أسقطت القنبلة الذرية على هيروشيما [GlobalAircraft] |
4 أغسطس الساعة 00:00 ص
غرفة الإعلام فى جزيرة تينيان
فى قاعدة جوية أمريكية فى جزيرة نائية فى المحيط الهادئ، ينتظر مجموعة من الطيارين إبلاغهم بتفاصيل مهمة شديدة السرية. كانوا قد تدربوا لمدة تسعة أشهر دون أن يعرفوا طبيعة المهمة التى سيخرجون من أجلها. قام قائدهم العقيد بول تيبيتس بإخبارهم أنهم سيقومون بإسقاط قنبلة لها قوة تدميرية تعادل 20 ألف طن من مادة تى إن تى TNT المتفجرة، وأن هذه القنبلة ستقوم بتدمير كل شىء في محيط دائرة نصف قطرها ثلاثة أميال.
 |
| العقيد بول تيبيتس يخاطب جنوده [Getty] |
5 أغسطس الساعة 08:32 ص
مقر قيادة العمليات، جزيرة تينيان
كان الجنود فى القاعدة ينتظرون التوقيت الذى سيقومون فيه بإلقاء السلاح الجديد. كان الرئيس الأمريكى ترومان يخشى من فقدان المزيد من الجنود فى غزو اليابان، خصوصاً وأن أمريكا خسرت حتى تلك اللحظة أكثر من 100 ألف جندى فى معارك المحيط الهادئ. والآن أصبح حفنة من الجنود الشبان، فى العشرينات من أعمارهم، مستأمنين على سلاح فتاك، وأصبح بين أيديهم مصير مئات الآلاف من الأمريكيين واليابانيين.
5 أغسطس الساعة 08:47 ص
مقر قيادة العمليات، جزيرة تينيان
وصل تقرير الأرصاد الجوية بأن السحب فوق اليابان ستنقشع فى خلال 24 ساعة. كانت هذه هى الأنباء التى كان ينتظرها الجنرال فاريل بفارغ الصبر، وهو الرجل المسؤول عن استخدام السلاح الجديد. كانت هذه الأجواء مثالية لإلقاء القنبلة الذرية، المسمّاة "الصبى الصغير". أرسل فاريل النبأ إلى قيادات وزارة الدفاع الأمريكية فى واشنطن، بأن القنبلة سيتم إلقاؤها فى السادس من أغسطس، وأن الوقت التقريبى للإقلاع هو فى الساعة 02:45 صباحاً. فى هذه الأثناء كان الرئيس ترومان على متن الباخرة الحربية الأمريكية أغسطا فى المحيط الأطلنطى، ولم يكن عليه سوى الانتظار بعد أن قام بالموافقة على استخدام القنبلة الذرية بعد الثالث من أغسطس.
 |
| الرئيس الأمريكى ترومان (اليمين) على متن السفينة الحربية أغسطا 1945 [Getty] |
5 أغسطس الساعة 02:31 م
مكتب التخطيط، جزيرة تينيان
كان الرجال سيقلعون فى الصباح الباكر، ولكنهم لم يكونوا على علم بعد أى المدن الثلاثة سيضربون: هيروشيما، ناجازاكي، أم كوكورا. كانت الخطة أن يتم استهداف جسر فى وسط مدينة هيروشيما، إن وقع الاختيار عليها لضربها. فى مساء ذلك اليوم تسلم تيبيتس مظروف به 12 كبسولة تحتوى على سم السيانيد، وكانت التعليمات أنه فى حال فشل المهمة فعلى الرجال ابتلاعها حتى لا يتم تعريضهم للاستجواب وإفشاء أسرار السلاح الجديد، ولكنه لم يخبر جنوده بالأمر حتى لا يجزعوا.
 |
| خريطة توضح مواقع المدن الثلاث هيروشيما وكوكورا ونجازاكى وموقع جزيرة تينيان [Wikipedia] |
5 أغسطس الساعة 03:00 م
مدينة هيروشيما، اليابان
مدينة هيروشيما تقع على بعد أكثر من 1500 ميل شمال جزيرة تينيان، وكانت مدينة مكتظة بالسكان، ومن أهم مصادر التموين والتسليح الخاصة بالجيش اليابانى. كان الجيش الأمريكى قد قام بعمليات قصف مكثفة بقنابل حارقة، ما أدى إلى وفاة أكثر من 100 ألف شخص فى غارات على مدينة طوكيو العاصمة، وأكثر من 900 ألف شخص فى أنحاء اليابان. ولكن لم تتعرض مدينة هيروشيما لمثل هذه الغارات. كانت طائرات بى-29 تطير بكثافة فوق المدينة، ولكنها لم تكن تلقى القنابل، ولم يكن السكان المحليون يعلمون أنه تم تجنيب مدينتهم الدمار حتى يتم تجريب هذا السلاح الجديد.
5 أغسطس الساعة 03:00 م
هنجر، جزيرة تينيان
كانت الاستعدادات تجرى على نحو مرضى. تم نقل "الصبى الصغير" خارج هنجر التخزين، ولكن النقيب بارسونز، خبير المقذوفات الذرية، كان متخوفاً، حيث انفجرت طائرتان طراز بى-29 أثناء الإقلاع فى خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية. إن حدث مثل هذا للطائرة التى ستحمل القنبلة فستكون النتائج كارثية. اتخذ النقيب بارسونز ومساعده الملازم جيبسون قراراً جريئاً بتفعيل القنبلة فى الجو، وهو إجراء لم يتم اختباره قبل الآن.
 |
| تحميل القنبلة "الصبى الصغير" على متن الطائرة التى ستقوم بإلقائها [Getty] |
5 أغسطس الساعة 08:00 م
مدينة هيروشيما، اليابان
كان اليوم يوشك على الانتهاء بالنسبة لسكان هيروشيما. عاد الآباء إلى منازلهم، وعكف الأولاد على القيام بواجباتهم المنزلية. كان الكثير من هؤلاء الأطفال سيقومون فى اليوم التالى بالمساعدة فى الإجراءات الاحترازية لمواجهة الغارات الأمريكية المحتملة، وذلك بإخلاء طريق لعربات الإطفاء قرب جسر فى وسط المدينة. وكان الطقس المتوقع للغد مشمس وحار.
6 أغسطس الساعة 00:02 ص
غرفة الإعلام، جزيرة تينيان
قضى الرجال بقية اليوم فى الاسترخاء واللعب، ثم تجمعوا فى غرفة الإعلام لتلقى التعليمات الأخيرة. ستتكون القوة الضاربة من ثلاث طائرات، وتم تسمية الطائرة الحاملة للقنبلة "إينولا جاى". ستقوم ثلاث طائرات استطلاع جوى بالطيران قبلهم بساعة، وبناءً على التقرير الجوى سيتم اتخاذ القرار بضرب أى من المدن الثلاث. ستبلغ مدة الطيران 12 ساعة حتى الوصول إلى الهدف. تناول الرجال إفطاراً شهياً، وهم يعلمون أنه قد يكون الأخير.
 |
| تيبيتس يقوم بإعداد طاقمه قبل الإقلاع [Getty] |
6 أغسطس الساعة 02:45 ص
مدرج الإقلاع، جزيرة تينيان
قام الرجال بأخذ صورة تذكارية قبل استقلال الطائرة والإقلاع بها. قام الجنرال فاريل بإبلاغ القيادة بأن الطائرة فى طريقها. وفى هذه الأثناء تسلم الرئيس ترومان ملف يحتوى البيان الذى سيتم إعلانه بعد 16 ساعة من الهجوم، وكان اسم المدينة المستهدفة خالياً حتى اللحظة.
6 أغسطس الساعة 06:47 ص
قمرة القيادة، إينولا جاى
أصبحت الطائرات على بعد 300 ميل من الساحل اليابانى، ولم يتم استهدافهم من قبل أى طائرات يابانية. رغم صعوبة المهمة، قام بارسونز وجيبسون بتفعيل القنبلة بنجاح على ارتفاع 5 آلاف قدم، وأصبح "الصبى الصغير" جاهزاً للاستخدام. ولكن حتى هذه اللحظة لم يكن أحد على متن إينولا جاى يعلم ما هو الهدف الذى سيتم ضربه.
 |
| طائرة بى-29 أثناء الطيران [Getty] |
6 أغسطس الساعة 07:31 ص
هيروشيما، اليابان
وصلت طائرة استطلاع الجوى إلى هيروشيما، وكان الجو صحواً والسماء صافية. على الأرض انطلقت صفارات الإنذار، ولكن معظم السكان تجاهلوها لاعتيادهم على رؤية طائرات بى-29 فوق المدينة. أبلغت طائرة الاستطلاع إينولا جاى بأن هيروشيما ستكون الهدف الأفضل، أبلغ تيبيتس طاقمه بأن الهدف هو مدينة هيروشيما، وبدأت الطائرة الهبوط لارتفاع 31 ألف قدم. قام مسؤول مدفع مؤخرة الطائرة وهاوى التصوير بوب كارون بالتمركز فى المؤخرة لالتقاط صور الهجوم.
6 أغسطس الساعة 08:15 ص
هيروشيما، اليابان
تم إطلاق القنبلة، وعند انفجارها وصلت الحرارة عند منطقة الاشتعال إلى بضعة ملايين درجة مئوية. هزت موجة ارتجاجية نووية المدينة فى لحظات مدمرةً أكثر من 60 ألف بناية. يقدر عدد من مات من الرجال والنساء والأطفال نتيجة للحرارة الفائقة والإشعاع الذرى بأكثر من 100 ألف شخص. شاهد طاقم الطائرة إينولا جاى الدمار الهائل الذى لحق بهيروشيما من الجو. وصلت رسالة مشفّرة لوزارة الدفاع الأمريكية: "ناجح بكل المقاييس. الآثار المرئية أكبر من تجربة ترينيتى. الهدف هيروشيما."
 |
| صورة لسحابة عش الغراب فى انفجار هيروشيما [Wikipedia] |
6 أغسطس الساعة 10:50 ص
البيت الأبيض، واشنطن
وصل المراسلون إلى غرفة الإعلام بالبيت الأبيض، وتم إخبارهم أن قنبلة بقوة تدميرية تعادل 20 ألف طن من مادة تى إن تى تم إسقاطها على اليابان. تم نشر الأنباء فى الإذاعة، وفى اليوم التالى تصدرت عناوين الصحف اليومية. تم وصف "الصبى الصغير" بأنها القنبلة التى غيرت العالم.
9 أغسطس الساعة 11:01 ص
مدينة نجازاكى، اليابان
تم إسقاط القنبلة الذرية الثانية على مدينة نجازاكى، وكانت تسمّى "الرجل السمين"، على الوادى الصناعة فى مدينة نجازاكى، على ساحل اليابان الجنوبى. كان الهدف الأساسى هو مدينة كوكورا والهدف الثانوى هو مدينة نجازاكى، ولكن وجود السحب والدخان فوق المدينة حال دون استهدافها واتُخِذ القرار بضرب مدينة نجازاكى. رغم أن القنبلة الثانية كانت أقوى من الأولى، إلا أن تأثيرها كان محدوداً فى وادى أوراكامى وحمت التلال المحيطة بالوادى باقى المدينة من التدمير. تقدر أعداد الضحايا فى مدينة نجازاكى بين 22 و75 ألف شخص.
15 أغسطس بتوقيت اليابان
اليابان
لأول مرة فى التاريخ يتحدث امبراطور اليابان هيروهيتو إلى شعبه عبر موجات الراديو. بعد إلقاء القنبلة الثانية على نجازاكى، أمر الامبراطور القوات المسلحة اليابانية بالاستسلام. رغم إلقاء قنبلتين ذريتين، إلا أن اليابانيين شعروا بالدهشة لأن اليابان كانت مصرة على عدم الاستسلام بتاتاً، وأن الموت فى ميدان القتال أهون من إهانة الاستسلام.
 |
| الرئيس الأمريكى ترومان يشير لتوقيع الامبراطور هيروهيتو على وثيقة استسلام اليابان [Getty] |
14 أغسطس بتوقيت الساحل الشرقى
الولايات المتحدة
خرج الآلاف من الأمريكيين للشوارع للاحتفال بانتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان. تم اعتبار طاقم إينولا جاى أبطالاً قوميين، يخرجون فى المسيرات، ويظهرون على أغلفة المجلات وبرامج التلفاز. رغم عدم وجود أعداد يقينية، يقدر عدد من قتلوا من قنبلتى هيروشيما ونجازاكى بحوالى 200 ألف شخص، ورغم ذلك اعتبر ترومان أنه كان إجراءً ضرورياً من أجل إنهاء الحرب بسرعة وتجنب فقدان المزيد من الأرواح فى حال استمرار الحرب.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق