قصف بريطانيا، أو ما يعرف بالإنجليزية باسم "ذا بليتز" The Blitz، هو اختصار للكلمة الألمانية Blitzkrieg أى الحرب الخاطفة. خلال ثمانية أشهر من سبتمبر 1940 وحتى مايو 1941 قامت القوات الجوية الألمانية بقصف ست عشرة مدينة بريطانية بكثافة. تسببت هذه الغارات فى قتل الآلاف من المدنيين، وحولت الجبهة الداخلية إلى خط مواجهة. لم يتجاوز عدد القتلى البريطانيين العسكريين أعداد القتلى المدنيين حتى خريف 1942. فى هذه المقالة سنتعرف على أهم محطات "معركة بريطانيا" وعمليات القصف الجوى الألمانى لبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
قصف بريطانيا [BBC] |
3 سبتمبر 1939: قبل القصف
بعد دقائق من إعلان نيفيل تشامبرلين، رئيس الوزراء البريطانى، الحرب على ألمانيا، دوّت صفارات الإنذار فى لندن وخشى الناس من الغارات الجوية الألمانية المتوقعة على بريطانيا. ولكنه كان إنذاراً كاذباً، حيث لن تبدأ الغارات الجوية المركزة حتى نهاية صيف العام التالى. مع اشتعال الحرب فى المحيط الأطلنطى بين الغواصات الألمانية وسفن الحلفاء، شنت القوات الجوية الألمانية بضع غارات نهارية على بريطانيا، ما أدى لاتخاذ قرار بترحيل الأطفال من المراكز الصناعية والمدن إلى المناطق الريفية لحمايتهم من القصف المتوقع.
بدأت عمليات إجلاء الأطفال فى 1 سبتمبر 1939 [BBC] |
7 سبتمبر 1940 الساعة 4:43 م: السبت الأسود
كان الناس فى جنوب شرق إنجلترا يستمتعون بالشمس فى عصر يوم السبت عندما شاهدوا أعداداً هائلة من الطائرات الحربية الألمانية تظلم السماء فوقهم. انطلقت صفارات الإنذار فى الساعة 4:43 من مساء ذلك اليوم، وهى الصفارات التى عٌرفت بـ "وينى الناحب" أو "مينى الباكى" نتيجة لصوتها الذى يشبه الولولة. أسقطت الطائرات قنابلها على ميناء لندن واشتعلت النيران فى المخازن المحاذية لنهر التيمز.
طائرات نازية تقوم بقصف لندن [BBC] |
7 سبتمبر 1940 الساعة 6:30 م: المئات من الفئران
أسقطت الطائرات المئات من القنابل الحارقة الصغيرة على الميناء، والتى كانت بمثابة المنارة لموجة ثانية من الطائرات الحاملة لقنابل شديدة الانفجار. تحولت أرصفة الميناء فى دقائق إلى كتلة من اللهب والسكر المذاب والكحول المحترق والقطران الساخن.هربت المئات من الفئران من المخازن والمستودعات المحترقة، وانطلقت طواقم الإطفاء والإنقاذ والدفاع المدنى نحو الحرائق، ولكنها تعطلت نتيجة التصاق الحبوب المنصهرة بأحذيتهم. بحلول الساعة السادسة والنصف قفلت القاذفات الألمانية من طراز دورنيير وهاينكل عائدة إلى فرنسا بصحبة المقاتلات من طراز ميسرشميت. أعلنت الصفارات انتهاء الغارة، ولكن إلى حين.
كان نهر التيمز بمثابة دليل للطائرات الألمانية لقصف لندن [BBC] |
7 سبتمبر 1940 الساعة 8:30 م: عودة الألمان
عادت القاذفات الألمانية الثقيلة للقصف، وأضحت مساحة شاسعة من جسر لندن وحتى ووليتش ناراً مستعرة. تضررت مواسير المياه والغاز فى الطرف الشرقى لمدينة لندن، كما تحطمت خطوط الكهرباء والهاتف. قُتل أكثر من 450 شخص من جراء الغارات فى ذلك اليوم. ستعاود القاذفات الألمانية قصف لندن لمدة 57 يوماً متصلة حتى 7 نوفمبر عندما أعاق الطقس السىء عمليات القصف. فى تلك المرحلة من عمليات القصف لم يكن المدنيون هم الهدف الأساسى، ولكن لأن الكثير من المدنيين كانوا يعيشون بالقرب من المنشآت العسكرية فإن ذلك جعل "الخسائر الجانبية" صادماً.
10 سبتمبر 1940: الأطفال
امتلأت الصحف بنصائح للآباء بالهدوء وعدم الجزع أثناء الغارات حتى لا يفزع الأطفال.ولكن كان للقصف الجوى تأثير نفسى شديد على الأطفال، وخصوصاً من فقدوا آباءهم. لاحظت أنا فرويد، ابنة عالم النفس الشهير سيجموند فرويد، أن طفلة تبلغ من العمر 4 سنوات كانت لا تأكل ولا تتكلم ولا تلعب.
كان الأطفال يقوموت بتدريبات لكيفية التصرف حيال الغارات والهجوم بالغازات السامة فى المدارس [BBC] |
13 سبتمبر 1940: مترو الأنفاق
امتلأت محطة مترو أنفاق هولبورن بالمواطنين الخائفين من القصف، ولم يقم المسؤولون باتخاذ إجراءات لإخراجهم رغم صدور أوامر بمنع الناس من اتخاذ محطات المترو كملاجئ من الغارات. كان السبب هو محاولة الحفاظ على حركة نقل الناس والبضائع خلال القصف الجوى. ولكن فى أول ليلة من الغارات، قام المئات من سكان المنطقة الشرقية بلندن بشراء تذاكر المترو وعدم الخروج منه. بحلول منتصف سبتمبر كان آلاف الأشخاص يسكنون فى محطات مترو الأنفاق، وكان على الحكومة إيجاد حل بديل لمحاولة إخراجهم بالقوة، الذى قد ينتج عنه مواجهات غير مأمونة العواقب.
احتمى آلاف البريطانيين بمحطات مترو الأنفاق للهروب من الغارات الجوية [BBC] |
أكتوبر 1940: الخوف والرغبة الجنسية
كان من الطبيعى أن يصاب الناس بالخوف نتيجة الغارات الجوية، ولكن لم يكن هناك أى رعاية صحية أو نفسية لمن يعانون من الفزع. يقول الطبيب جورج فرانكلين: "كان الناس يتناولون المزيد من الخمور بطبيعة الحال، وكانت الرغبة الجنسية ملحّة وخصوصاً عند النساء". لاحظ أطباء آخرين انتشار القرحة الهضمية وازدياد الطلب على أدوية الإسهال.
14 أكتوبر 1940: بالهام
وقعت قنبلة على طريق "بالهام" فوق تقاطع أنفاق المترو، ما أدى لمقتل 68 شخصاً كانوا يحتمون فى المحطة، وكان رئيس المحطة من ضمنهم. توفى العديد من الضحايا نتيجة الغرق جراء تحطم أنابيب الصرف الصحى، وبات واضحاً أنه لا يوجد مكان بمأمن من الضربات المباشرة. كان معظم الناس يحتمون فى ملاجئ "أندرسون" فى الفناء الخلفى (هياكل مصنوعة من الحديد المجلفن المُموّج تسع حوالى 6 أشخاص وتعتمد فى عملها على انحناء هيكلها الذى يقوم بتحويل الموجة الانفجارية للقنابل بعيداً عن داخلها) أو فى ملاجئ عامة أو ملاجئ مخصصة للغارات الجوية. كما كان الناس يحتمون تحت الجسور وفى الأقبية، وكان أكثر من 15 ألف شخص يحتمون فى كهوف تشيسلهيرست فى كِنت كل ليلة.
ملجأ أندرسون مصنوع من ألواح الحديد المجلفن المموج [Wikipedia] |
15 أكتوبر 1940: بى بى سى BBC
سمع المستمعون لإرسال هيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سى) صوت انفجار قنبلة فى مبنى الإذاعة فى لندن. توقف المذيع بروس بيلفريدج للحظات قبل أن يعاود تقديم النشرة الإخبارية. كان نشرة أخبار التاسعة مساءً علامة مميزة فى حياة البريطانيين. كان الإرسال يتم قطعه عادةً مع بداية الغارات الجوية. ورغم أن الناس كانت تثق فى البى بى سى، إلا أنها كانت أيضاً تتعرض للانتقادات، فكثيراً ما كانت وزارة الإعلام تطلب منها تقليل حجم الخسائر المعلنة حتى لا تتأثر الروح المعنوية، وإن قامت بتغطية غارات على مناطق ريفية فإنها كانت تُتَّهم بنشر الذعر بين المواطنين.
المذيع بروس بيلفريدج [BBC] |
14 أكتوبر 1940: الكوفِنْتَرَة
تعرضت كوفنترى، مركز الصناعات العسكرية البريطانية، لغارة مكثفة استمرت 12 ساعة. نظراً لحجم الدمار الهائل الذى لحق بالمدينة، دخلت اللغة الإنجليزية لفظة جديدة "كوفنترة" أى "تدمير شديد بالغارات الجوية" مثل ما حصل لمدينة كوفنترى. تم تدمير المصانع والمدارس والطرقات والمستشفيات وقُتل 568 شخص جراء الغارات الألمانية. كان هذا عدداً غير مسبوق من الضحايا فى ليلة واحدة، وتمت مراسم دفن جماعية للقتلى.
وينستون تشرشل يتفقد الدمار فى مدينة كوفنترى [BBC] |
29 ديسمبر 1940: مدينة لندن
كان عدم وجود غارات يوم عيد الميلاد (الكريسماس) على لندن مفاجئاً، ولكنها لم تدم طويلاً، إذا استُؤنفت الغارات يوم 29 ديسمبر بكثافة. انطلقت صفارات الإنذار فى السادسة مساءً، وتم إسقاط أكثر من 300 قنبلة حارقة فى محيط كاتدرائية سانت بول، واشتعلت النيران فى مدينة لندن. كان يوم الأحد (عطلة نهاية الأسبوع) وبالتالى كانت المكاتب والأبنية مغلقة فى وسط المدينة، ما صعّب من مهمة رجال الإطفاء. اشتعلت المبانى الخشبية وتهاوت لتسد الطرقات الضيقة فى وجه رجال الإطفاء. ورغم الدمار الكبير، إلا أن الكاتدرائية بقيت صامدة بمعجزة.
كاتدرائية القديس بول بقيت صامدة رغم القصف الشديد فى ديسمبر 1940 [BBC] |
يناير إلى مايو 1941: لا يوجد ميناء آمن
مع استمرار الشتاء القاسى لم ينجُ من القصف إلا بعض المناطق المحدودة. كانت أهم الأهداف هى الموانئ، وترسانات بناء السفن، والقواعد البحرية. حصلت مدينة ميرسيسايد على لقب ثانى أكثر مدينة تتعرض للقصف. عانت أيضاً من القصف مدن هول، سوانسى، ساوثهامبتون، بورتسماوث، بيلفاست، بريستول، وإيفونماوث. تم أيضاً قصف مدينة كلايدسايد فى شهر مارس رغم أنها كانت تأمل أن تكون بعيدة عن مرمى الطائرات الألمانية، حيث تم تدمير أكثر من 4000 منزل فى منطقة فقيرة أصلاً.
جانب من المنازل المدمرة فى ميناء كلايدبانك [BBC] |
8 مارس 1941: النهب
تم قصف مقهى "كافيه دو باريس" فى لندن، والذى تعرض بعدها لعمليات النهب حيث سرق اللصوص الخواتم الذهبية من أصابع الموتى وخطفوا السلاسل الذهبية من الأعناق وبحثوا فى حقائب اليد عن الثمائن. كانت عمليات النهب من الأمور المسكوت عنها. كان اللصوص يتتبعون الغارات الجوية، ويقومون بتحطيم واجهات المحال الزجاجية مع سقوط القنابل لسرقتها. كما كانت شبكات اللصوص تتبادل المعلومات عن المنازل المدمرة والتى قد تحتوى على مقتنيات ثمينة. فى عام 1941 تمت 2763 محاكمة بسبب النهب، وكان 163 من المتهمين من النساء.
محل ملابس مدمر فى حى لندن الغربى [BBC] |
20 مارس 1941: بلايموث
قام الملك والملكة بزيارة مدينة بلايموث التى تعرضت للقصف 13 مرة من قبل. بعد انتهاء الزيارة عادت القاذفات الألمانية للقصف لثلاثة ليالٍ متواصلة. تم قتل أكثر من 1172 شخص، ولم يتم العثور على الكثير من الجثث.
السكان يمرون بجوار المنازل المدمرة فى مدينة بلايموث [BBC] |
أبريل ومايو 1941: أكثر الشهور قسوة
تعرضت هول وليفربول وبوتل للمزيد من الغارات المكثفة. كانت آخر غارة كبيرة على لندن فى مساء 10 مايو 1941، والتى ألقت فيها الطائرات الألمانية أكثر من 8000 طن من المتفجرات وخلفت أكثر من 1400 قتيل. مع حلول الساعة السادسة من صباح 11 مايو توقفت صفارات الإنذار. فى ذات الليلة دوت صفارات الإنذار مرة أخرى، وتوقفت بعدها بساعة ونصف. ورغم أن الغارات استمرت خلال السنوات الأربع التالية بصورة متقطعة، إلا أن هذه كانت النهاية الفعلية لعملية قصف بريطانيا وذلك لأن هتلر وجّه أنظاره ناحية الشرق لمهاجمة الاتحاد السوفيتي بدءاً من يونية 1941 فيما عُرف بعملية "بارباروسا"، والتى مثلت هزيمة النازيين فيها بداية النهاية.
إطفاء الحرائق فى غارات 10 مايو 1945 [Wikipedia] |
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق